في صحيح مسلم: جاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله، إني قد زنيتُ فطهِّرني، وأنه ردَّها، فلما كان الغد قالت: يا رسول الله، لِمَ تردُّني؟ لعلك أن تردَّني كما رددتَ ماعزًا، فوالله إني لحبلى، قال: «إما لا، فإذهبي حتى تلدي»، فلما ولدتْ أتتْه بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدتُه، قال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه»، فلما فطمتْه أتتْه بالصبي في يده كسرةُ خبز، فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمتُه، وقد أكل الطعام، فدفع الصبيَّ إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر، فرمى رأسها، فتنضَّح الدمُ على وجه خالد، فسبَّها، فسمع نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم سبَّه إياها، فقال: «مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبة، لو تابها صاحبُ مكس لغُفر له» ثم أمر بها فصلى عليها ودفنتْ.
لن تدرك عظمتَها إلا بعد ترسم خطوها، وتخيلِ خواطرها، والإحساس بحرارة توبتها، وعزيمة إنابتها رضي الله عنها وأرضاها فقد تمرَّغتْ في أوحال ظلمة المعصية لحظةً، وتجرعت بقيةَ ساعات عمرها نادمةً تائبة، باحثةً عن دفء شمس الحقيقة الوضاء، سالكةً دربَ طهارة وضيء، فلم ترَ في شمس أفقها طريقًا للخلاص غير ما حَكَمَ اللهُ ورسوله به عليها، ألا وهو إقامة الحدِّ، وهو رجم الزانية المحصنة حتى الموت.
يا لروعةِ حرصها على الحق، وعِظَمِ تمسُّكها بقواعده، وقوةِ قبضتها على جدرانه! حين كررتْ زيارتها لرسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم وقد رصدتْ لكل مرحلة عمرية من حياة وليدها الحبيبِ زيارةً، تعلن فيها إصرارَها الأكيد على تطبيق شرع الله، ولو كان الثمن بذْلَ مهجتها، وتسليم صغيرها ليدٍ حانية، وقلب مرشد، وقدوة نابضة، فلم تجد كما لن نجد أطهرَ، وأروعَ، وأكرمَ منه يدًا صلى الله عليه وسلم.
لقانون الرحمن الرحيم إستسلمتْ، وللرحمة المهداة بسطتْ يدها، عندها نعمتْ بفضاءات إحترامها لنفسها، وتقديرها لِذاتها، وحبِّها لسيادة شرعها الأثير، خانقةً مشاعرَ التوتر وحالات إضطراب النفس، ومحاصِرةً نارَ الندم، التي كانت لروحها وقودًا لا ينضب حين سلمتْ صغيرَها لسيدها صلى الله عليه وسلم وإستسلمت لوابل حجارة أليم، ربما كانت بعدد أنفاس توبتها، لكنها إطمأنتْ لحظة غلبة برد توبتها على فيح نار ندمها، وتجلتْ رحمتُه صلى الله عليه وسلم عندما أعلن عن عظم إنابتها.
قليلٌ من التدبر يرينا كثيرًا من العِبَر، وينثر مفرداتِ الرحمة في وجوهنا، أيَّة رحمةٍ غمرتْها وأنقذتها من خزي الدنيا وعذاب الآخرة؟! وأية رحمة أنارتْ درب صغيرها إذ غدا ابن التائبة توبة نصوحًا؟! وأية رحمة جللتْ قومها، فأكسبتْهم عزًّا وفخارًا إلى يوم الدين؟! بل أية رحمة تغلغلتْ في أزقة مجتمعها، فأكسبتْه طُهر قطرات الندى؟! فهل لنا أن نحيِّي ذاك الركب، ونسلك ذاك الدرب، ونرفع عن أنفسنا إصرَ الذين يتقولون الأقاويل عن سيادة الشريعة الإسلامية، وما يُلصق بها من قسوة تطبيق الحدود، وما تسبِّبه من جرائم شرف ألصقتْ بها بهتانًا وزورًا، ألا ليت قومي يدركون أن مرتكبي جرائم الشرف، هم قتلة إنسانية الإنسان، ومحاصرو آفاقه الرحبة.
وكيف لمن لم يتعلم هذا الدِّينَ أن يعرف أن شرف الأمَّة قاطبة هو بمقدار تمسُّكها بدينها؟!
ألا ليت قومي يعلمون حقيقة محجتنا البيضاء، قبل أن يدخلوا جحور أَضُبٍّ مدلهمة سوداء.
الكاتب: أم حسان الحلو.
المصدر: موقع منبر الداعيات.